الفكر الإسلامي

 

مأدبة اليوم الأربعين لوفاة الموتي إنما هي لإرضاء العشيرة

 

بقلم : الشيخ الجليل المربي الكبير العلامة أشرف علي التهانوي

المعروف بـ Kحكيم الأمةJ المتوفى 1362هـ / 1943م

تعريب : أبو أسامة نور

 

     المآدب التي تقام لأفراد العشيرة ، إنما تقام لكي يعلموا ماهي الأنواع التي قدّمها فلان ؛ ففي مناسبات الأحزان ، يقولون بألسنتهم : إنهم إنما يقيمون المآدب لكسب الثواب ؛ لكنه يمكن اختبار مدى مصداقيتهم في هذا الصدد بأنك إذا قلتَ للمقيم لمأدبة : إن العمدة في الثواب أن الراجي للثواب ينال أكثر ما يمكن منه إذا أنفق المبلغ في الجهة التي هي بأمس حاجة إلى أن يُنْفَقَ فيها . أما الذين تدعوهم للطعام فهم أثرياء ذووأسباب ووسائل ، فادفع خفيةً هذا المبلغ الذي رصدتَه لإقامة المأدبة إلى مدرسة كذا أو إلى مسجد كذا أو إلى الفقير فلان الذي يأبى السؤال ومدَّ اليد إلى أحد، وليهدِ هو ثوابه إلى الميت . وهنا تراه يشعر بالكيفية العجيبة ، وسيقول : سبحن الله ! أ أنفق روبياتي ولايعلم بها أحد ؟!. أفليس ذلك رياء ولا شيء وراء ذلك . فعُلِمَ أن ذلك كله إنما يُفْعَل للرياء وجريًا وراء الشهرة . وإذا كان الأمر كذلك، فأنى يرجى الثواب ؟ وإذا لم ينل القائم بذلك ثوابًا، فكيف باهدائه إلى الميت ؟ لأن إهداء الثواب إنما يعني أنك نِلْتَ الثواب لقاء حسنة فعلتَها ، فأهديت ما نلته من الثواب إلى غيرك . فإذا لم تفعل حسنة فماذا تناله وماذا تهديه ؟!.

فرصة طريفة :

     وأتذكّر بالمناسبة قصةً ، وهي أن شخصًا في «رامبور» بايع شيخًا كاذبًا ، وبعد أيام سأله أحد: ماذا استفدتَ من شيخك ؟ وكان الرجل مصارحًا بالحق ، فقال : إذا لم يكن الماء في الزق فكيف يمتلئ منه الإبريق ؟

     فهذا هو مثل نيل الثواب ، أي إنه يصل أولاً من يقوم بحسنة ثم يتاح له أن يهديه إلى غيره . فإذا حُرِمَ هو إيّاه فكيف يهديه إلى غيره . وعلى ذلك فالمبالغ كلها التي أنفقها ذهبت هدرًا . على كل فإنه مجرد زعم أنهم يقيمون المأدبة لنيل الثواب ، إنهم إنما يقيمونها استحياءً من العشيرة . وربما يعترفون بذلك بألسنتهم .

قصة رجل من عشيرة «غوجر»

     كان في بلدة «كيرانه» مُسِنّ من عشيرة «غوجر» مرض ذات مرة ، فتوجّه ابنه إلى طبيب بالطبّ اليوناني الإسلامي ، وقال له : سيدي الطبيب ! أبرئ والدي هذه المرة من مرضه بشكل أو بآخر ، إني لن أحزن شيئًا على موته ، ولكن الرز غالٍ جدًّا هذه الأيام ، فسيشق عليّ إطعام أفراد العشيرة . كان الابن المسكين ساذجًا جدًّا ، فصدق في مقالته . أما نحن ، فوقورون ، فلا نبدي الصدق بالألسنة ، ولكننا نضمر في أفئدتنا ما أبداه الابن بلسانه . فتلك هي حال الذي يطعم الطعام لدى موت قريب من أقربائه . أما الطاعمون فهم وُقُحٌ في الواقع ؛ حيث إنهم في مثل هذه المناسبة الحزينة، يحملونه عبء إطعام الطعام ، بدلَ أن يتعاطفوا معه ويواسوه .

قصة رجل من أبناء ثريّ

     وفي شأن هذا الموضوع الذي نتحدث عنه ، كان يحكي رجل قصة ثري مات بمديرية «بلندشهر» فاجتمع في اليوم الأربعين من وفاته لأداء الطقس الذي جرى أداؤه ذاك اليوم ، كلٌّ من أعضاء عشيرته وأقاربه وأصدقائه ومعارفه ومعهم فيلتهم وخيلهم ، وقد أكرمهم ابن الثري ، وأعدّلهم أطعمة لذيذة ، ولما حان موعد تناول الأطعمة ، ومدت السفرة ، ونسقت الأطعمة ، وتحلّق الضيوف حولها ، نهض خلف الثريّ فيهم خطيبًا، وقال لهم أيها السادة ! أستميحكم المقال قبل أن تتناولوا الأطعمة ، فاستمعوا : إنكم تعلمون : لماذا اجتمعتم اليوم ههنا . إني قد وقع عليّ خطب جسيم ؛ حيث مات والدي ، وانحسر عن رأسي ظله ؛ فاجتمعتم لتواسوي . فهل لمواساة تعني أن تجتمعوا حول الأطعمة اللذيذة وتشمروا عن أذرعتكم ، وتحاولوا أن تتفضوا عليها بنهم فيما عدتُ مثقلاً بالأحزان لا أسيغ معها الطعام والشراب ، افلا تستحيون ؟! ألا ! فكلوا إذًا . ومن كان ليأكل بعد هذا الحديث الذي ألقاه عليهم خلفُ الثريّ ، فانفض جميع الوجهاء عن السفرة ، واجتمعوا في ناحية ، وقالوا : حقًّا إن «تقليد الأربعين» هذا مما ينبغي محوه ، فاتفقوا على التوقيع على هذه المعاهدة ، وفرّقوا الأطعمة في الفقراء والمساكين .

موجز القول

     وإذا أمعنتم النظر وجدتم أن هذه الأطعمة كلَّها التي تُعَدُّ للعشيرة ، من هذا النوع ؛ فلا يجني منها المطعمون إلاّ العنتَ والأذى ، ولاينال منها الطاعمــون إلاّ الـــوقاحـــةَ . ورغم ذلك كله يشرّون بالعلماء ويطعنــونهم بأنهم يمنعون عن إهداء الثــــواب إلى الموتى . فاعلموا – ياسادة ! – إن إهداء الثواب لايمنع عنه أحد ، وإنما يمنع العلماءُ عن الخرافات التي لامنفعة منها . ألا إننا سننهى عن الصلاة التي يؤديها أحد مستدبرًا القبلةَ ؛ فلا يقالـــه : إن النهي واقــــع عن الصلاة ، وإنما هو واقع عن استدبار القبلة في الصلاة ، الذي لايتم معه أداء صلاة . فإذا كانت أعمالُنا وفقَ الشريعة لايمنعنا منها أحد ، وأهمُّ شروطها أن تُؤَدَّىٰ بالإخلاص وبنية الثواب.

زيارة آثار وتركات النبي

     وقد تجاوز الناس فيما يتعلق بآثار النبي الحدَّ مثل الذي يصنعونه بالنسبة للبدع الأخرى ؛ حيث يحتفلون بها – الآثار – احتفالهم بالعيد . ومعظم الناس يقعون في شأنها في الشبهة ، حتى الطلاب ، فيرون أنه لا حرج في ذلك ، فيقولون: إذا زرنا جبّةَ النبي فإننا تبركنا بها ، فلو قصدها أحد بنية الزيارة فلا بأس . سألني طالب من سكان «جلال آباد» له دكّان بجنب الغرفة التي يودعونها الجبة الشريفة : أفهل يجوز لي إذا زرتُ الجبةَ وأنا جالس في دكاني ؟ فمنعته عن الزيارة ؛ لأن الزحام الذي يحتشد بهذه المناسبة إنما يمثّل المعارض والمواسم وأعياد الاحتفال بميلاد ووفاة الصالحين ، حيث تُقَامُ – المناسبة – بتعيين اليوم ، وتقام لها المأدبة ، ويقصدها الناس من أمكنة بعيدة ، ويكون فيها اختلاط بالنساء ، ويجتمع لزيارة الجبة حتى الذين لايصلّون ، على حين أن فضيلة زيارة الجبة لاتفوق فضيلة زيارة قبره ، وقد نهى عن الاحتفال بزيارة قبره ؛ فقال : «لاتتخذوا قبري عيدًا» (  ) فإذا لم يجز اتخاذ قبره عيدًا فكيف جاز اتخاذ جبته عيدًا ؟!.

أشعار النبي

     وتوجد أشعاره في بعض الأمكنة ؛ ولكنه لايجوز اتخـــاذها عيـــدًا كــذلك ؛ لأنــــه إذا وُضِعَ في الاعتبار أن أشعاره جزء من جسده ، فإنّها تبــدو أفضل من قبره ؛ ولكن القبر له تماسّ واتصال بجســـده ، فـــذلك فضيلة لاتوجد للأشعــــار بالفعـــل ؛ فحصل ههنا تساوٍ بين الخيرين : أي إن الأشعار جزء من جسده ، ولكنها ليس لهما الآن تماسّ بجسده ، والقبر ليس جـــزءًا من جسده ؛ ولكنّ له اتصالاً بجسده حالاً . وعلى ذلك فالأمران تساويا ، فعُلِمَ حكم أحـــدهما بحكم الآخر ، فثبت اتخاذ الأشعار عيدًا بحـــديثــــه : «لاتتخـــذوا قبري عيدًا» . وقـــد كان من غايتـــه في البلاغة أنه ذكر في النهي القبر ، فدلّ ذلك بشكل عفوي على أحكام الملابس والأشعار . على أن الصحابة رضي الله عنهم والسلف الصالحين رحمهم الله لم يتخــذوا قط أيًّا من ذلك عيـــدًا ، على حيـن أنهم كان لديهم إلى الخيرات والحسنات ، فلوكان ذلك خيرًا لسبقونا إليه ، ولكان لنا فيهم أسوة فيما يتعلق بذلك . بقي هناك سؤال يطرح نفسه ، وهو أنه إذا لم يكن الصحابة يتخذون آثاره عيدًا ، فماذا كان تعاملهم معها ؟ فللإجابة عن هذا السؤال قد قيّدتُ أحاديث نسوقها فيما يلي :

أحاديث في شأن آثار النبي

     عن عثمان بن عبد الله بن موهب ، قال : «أرسلني أهلي إلى أم سلمة بقدح من ماء ، وكان إذا أصاب الإنسانَ عينٌ أو شيءٌ ، بعث إليها مِخْضَبَةً ، فاطّلعتُ في الجلجل ، فرأيتُ شعرات حُمْرًا» . (البخاري في كتاب اللباس / باب: ما يذكر في الشيب 2/875 ، رقم الحديث 5896، 5897) .

     وقد وقع الخلاف في شأن خضابه ، والصجحُ أن أشعاره كانت قد بدأت تشيب ، مما يوهم الرائي أنــه أعمل الخضاب ؛ وإلاّ فإنه لم يعمل الخضابَ قط ، لأن عدد أشعاره المبيضة لم يكن إلاّ عشرين أو أكثر .

ذكر جبته

     في حديث طويل . فقالت (أسماء بنتُ أبي بكر رضي الله عنها) : هذه جبة رسول الله ، فأخرجت إليّ جبة طيالسة كسروانية ، لها لبنة ديباج ، وفرجيها مكفوفين بالديباج . فقالت : هذه كانت عند عائشة ، حتى قبضت ، فلما قبضت ، قبضتُها . وكان النبي يلبسها ، فنحن نغسلها للمرضى ، يستشفى بها . (مسلم في كتاب اللباس والزينة / تحريم استعمال إناء الذهب والفضة : 3/1641، رقم الحديث : 2069) .

حديث في شعره

     عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، قال : لما رمى رسول الله الجمرة ، نحر نسكه ، ثم ناول الحالق شقه الأيمن ، فحلقه ، فأعطاه أبا طلحة ، ثم ناوله شقه الأيسر ، فحلقه ، فقال : اِقْسِمْه بين الناس . (مسلم في كتاب الحج / باب بيان أن السنة يوم النحر الخ ، 20/947 ، رقم الحديث 1305؛ وأبوداؤد في كتاب المناسك / الحلق والتقصير ، 2/293 ؛ والترمذي في كتاب الحج / باب : الحلق والتقصير ، 2/66 . واللفظُ للترمذي) .

     فهذا الحديثُ يدلّ على أنه قسّم أشعاره في الصحابة بقدر كبير . ومن المعلوم أن الصحابة رضي الله عنهم انتشروا شرقًا وغربًا ، فإذا وُجِدَ شعره في مكان ، ينبغي أن لا نسرع إلى إنكار وجوده ، فلو علمنا بسند صحيح أنه شعره ، احترمناه ، وإذا لم يقم لدينا دليل قاطع على كونه منحولاً إليه ، وجب أن نسكت ولا نصدق ولانكذب ؛ لأن ذلك هو حكم الشريعة في الأمور المشتبهة .

حديث في لباسه

     عن أم عطيـــة في قصة غسل زينب بنت رسول الله أنها قالت : فلما فرغنا ألقى إلينا حقوه ، فقال: أَشْعِرْنَها إيّاه . (البخاري في كتاب الجنائز/ باب غسل الميت ووضوئه بالماء والسدر،1/167).

     قال الشيخ عبد الحق المحدث الدهلوي رحمه الله تعالى (959-1052هـ = 1552-1642م) في كتابه «اللمعات في شرح المشكاة» : وهذا الحديث أصل في البركة بآثار الصالحين ولباسهم . وقد عُلِمَ من هذا الحديث أنه من التبرك أن يوضع أثر من آثاره في الكفن ، ولكنه لا يُسْتَدَلّ بذلك على جواز وضع المصحف الشريف وكتب الأدعية ضمن الكفن ؛ لأنه بذلك تبطل حرمتها ؛ لأنه من الحرام وصل القرآن الكريم بالنجاسة ، ومن المعلوم أن الجثة تنتفخ وتتمزق بعد أيام ، فتخلط هذه النجاسة بالمصحف أيضًا . وكذلك الكتب التي تتضمن الأدعية وأسماء الله والرسول جديرة بالاحترام ، بل الألفاظ والحروف ، بل الورق الساذج غير المكتوب فيه لكونه آلة للعلم جديرة بالاحترام . وإن بعض الناس يكتبون «فرعون» و«هامان» في الورق ويضربونه بالأحذية ، فذلك تصرف غير معقول ، إنهم لم تتمكنوا من فرعون وهامان ، فأساؤا الأدب مع الورق الذي هو آلة من آلات العلم . ورغم ذلك لايجوز اتخاذ آثاره عيدًا ، لأنه لابدّ أن ندرك السبب في حرمتها ، إنما كانت الحرمة فيها لأنها لها علاقة بالنبي . والأحكام الواردة في النهي عن اتخاذها عيدًا أيضًا هي أحكامه ، فلا بدّ أن نحترمها أيضًا ، ولابدّ أن نعلم في اتباعها أيضًا بركة ، فلابدّ أن نحصل عليها .

     فالسؤال : ماذا ينبغي أن نتعامل به مع آثار النبي ؟ هذه الروايات دلت على جوابه . فلابدّ أن نعمل بما تدلّ عليه ولا نتجاوز .

الغلو في شأن الجبة

     وبعض الناس يغالون في شأن الجبة ، فينذرون لها . وقــد حرّم الفقهاء هذا العمل ؛ لأن النذر عبادة ، والعبــادة لاتجوز لمخلوق ، لأنها تخصّ الخالق جلّ وعلا . وقــد جاء في «بحرالرائق» أن النذر للمخلوق حرام بالإجماع ، فلا ينعقد النذر ، ولا يجب أداؤه . فالاحتفال بالجبة حرام ، وإقامة المآدب بهذه المناسبة حرام ، وكل التجاوزات الشرعية حرام .

الآثار وحدها لاتغني

     وينبغي أن لا يعتمــــد أحــــد على الآثار ، إنها لا تغني إلاّ مع الإيمان ، أفرأيت عبد الله بن أبي ، قد اجتمعت في شــأنـــه الآثار ، فوضع قميصه في كفنه . إن هذا الفضل لن يتمتع به اليوم أحد . وأعظم ما يصنعــه الناس أنهم قـد يصنعون خرقة من غلاف الكعبة ، لكنه أين من آثار النبي ولاسيّما قميصــه ، لأن جســــده أفضل من كل من الكعبة والعرش . ولو سلمنا كون الغلاف مساويًا لقميصــه ، فمن ذا الذي يسعد بأنه وضع ريقـــه في فمــــه ، إنـــه كان جزءًا منه ، وكان أفضل مـــن قميصــــه أيضًا ، ثم إنه صلّى عليه بنفســه صلاة الميت ، فمن ذا الـذي سيسعد بهـــذا الشـــرف اليـــوم ؛ لكن هــذه الآثــــار كلها لم تنفـــع ابن أبي ، لأنـــه لم يتمتع بالإيمان . وقد قال تعالى : «إِنَّهُمْ كَفَرُوْا بِاللهِ وَبِرَسُوْلِه وَمَاتُوْا وَهُمْ فَاسِقُوْنَ» (التوبة/84) .

 

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . جمادي الأولي 1426هـ = يونيو – يوليو 2005م ، العـدد : 5 ، السنـة : 29.